مايو 25, 2019 محمد الامام العزاوي مقالات قانونية 0
عوامل عدة متداخلة عموما وخصوصا، شرعية وقانونية وأخلاقية وحقوقية حملتني على اصطفاء موضوع الطلاق الشفوي واقتحام عقبته، وتخصيصه بتدقيق أحكامه، تأصيلا وتطبيقا، في ضوء الواقع المختلف، أشخاصا وزمانا ومكانا، وعرضها على ميزان الشرع وأحكام الوضع ومنطق الطبع، تأسيسا على مقدمات ونتائج، دون تجاسر أو افتيات، وعدم الوقوف عند ما خطه سادتنا الفقهاء في تآليفهم البديعة الألفاظ السامية الأغراض بإمعة وما زمموه بتسليم، فقد كان صحيحا في وقته سديدا في إبانه، فهم رجال ونحن رجال، والطريق لمن صدق لا لمن سبق كما قال السادة الصوفية. ومن هذه العوامل تعاظم ظاهرة الطلاق الشفوي، واستهتار بعض الأزواج بأثر الطلاق، الخاص والعام، وعدم تقدير المآلات ومراعاة العواقب، وجعل الله عرضة للأيمان دون توثق أو استبيان، وذيوع أيمان الهزل واللغو، وعدم اعتبار كون الحكم يدور مع علته وجودا وانتفاءً، وعدم الاعتداد بتأثير فقه الواقع على الأحكام الشرعية، تعديلا أو إلغاءً، تصويبا وتسديدا، وإهمال تفعيل سلطة ولي الأمر في تقييد المباح في سياقات معينة تقتضي ذلك، وعدم مراعاة المصلحة الفضلى للأبناء، وفساد بعض الذمم وشيوع الجحود والإنكار، وتوسع ظاهرة الأطفال المتخلى عنهم، وازدياد هامش التفكك الأسري واقتصار مفهوم الأسرة على الأسرة النووية (1) وضعف سلطة الأبوين وأفول سطوتها في ظل وجود مؤثرات أخرى أكثر استحكاما وأكبر تأثيرا، كالإعلام والشارع العام.
فضلا عن تزايد ظاهرة التدين الظاهري السطحي، ووجود هوّة بين العقيدة والسلوك، العلم والعمل، وتصدر شيوخ ودعاة الفضائيات للفتوى وقيادة العقل الجمعي، وتلقين الدين من صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية ومنصات الندوات في لحظات حماسة وإثارة، ووجود التباس مفاهيمي ناتج عن عدم ضبط المفاهيم الكبرى وذلك بعدم تحرير مفهوم التوفيقي والتوقيفي، والديني والدنيوي، والغيبي والحسي، والثابت والمتغير، والمناقشة بمعايير الصواب والخطإ والحلال والحرام، وعدم تحرير معاني الاصطلاحات الفقهية، والركون إلى راحة اجترار أقوال السلف، والاقتصار على ذات الحواشي والشروح والمختصرات لذات المتون والتآليف الفقهية، والتوسل بالحيل الفقهية وذيوع التنطع وهجر الرخص وسيادة فقه التشدد واصطحاب فقه الاستثناء في مقام فقه الأصل، والاعتصام بالآراء والمذاهب المهجورة والشاذة، ومناقشة مصادر الشريعة النقلية والعقلية دون استيثاق أو تبين لطبيعتها الثابتة أو المتغيرة. وعدم تجديد هذه المصادر بما يليق ومتطلبات العصر وخصوصية كل مصر، أو ما يصطلح عليه بالفقه الإنشائي، إذ النصوص متناهية والحوادث لامتناهية.
وكذا عدم الالتفات إلى تأسيس الأحكام الشرعية على ضابط المصلحة والعدل في العاد والمعاد، ووجود مصادر عقلية معتمدة، ضامنة لتطور الفقه الإسلامي، الثر الزاخر، والذي لا تحصر معارفه ولا تقصر مصارفه إلى جانب المصادر النقلية المعروفة، أو ما يصطلح عليه بأدلة التشريع فيما لا نص فيه، والتي تمثل عوامل السعة والمرونة في الشريعة، نظير الاستحسان الذي هو ترك الأصل والقياس لدليل أقوى منه حرصا لما هو أنفع للناس،(2) وكذا الاستصحاب والعرف، بل ووسم أحد المصادر الاجتهادية بوسم المصالح المرسلة، وهي التي لم يشهد لها الشرع الحنيف لا بالاعتبار ولا بالإلغاء،(3) وذلك وفق نطاق منضبط من الاجتهاد الشرعي المعتبر، وليس بالهوى والتشهي، مما يدل على قيام الشريعة الغرّاء على علل معقولة منضبطة لا على غيبيات مجهولة، مستجيبة لحاجات الناس في الدارين، ملبية لرغباتهم في الحال والمآل، العاد والمعاد، مراعية لمصالحهم، فطوبى لمن أدركها واتبعها، فحيثما وجدت المصلحة فَثَمَّ شرع الله، على نحو ما قرره الجهابذة من علماء الأصول ونجباؤهم، وما قاله غير واحد منهم، كالإمام العز بن عبد السلام سلطان العلماء والإمام المقاصدي الشاطبي(4).
إن توسع نطاق الطلاق الشفوي والاستهتار بهذه المكنة التي لا تبقي ولا تذر، الهادمة للأسر واستسهالها، وإسرافنا ومغالاتنا في قبولها، لا يعدو أن يكون عرضا لأمراض واعتلالات متعددة، اقتصادية ونفسية ودينية وأخلاقية وقيمية وتربوية ومالية، فإن في إطلاق حبل الطلاق الشفوي على غاربه مفسدة عامة محققة، وذلك من خطل الرأي وخطإ العمل، فكان واجب الوقت عقل هذه المكنة وتقييدها أو حتى عدم الاعتداد بها، وهجرها وإيقاف العمل بها إلى حين توافر موجبات الإعمال، وذلك بعد رجوح أسباب ودواعي الإهمال، أسوة بما وقع من إيقاف سهم المؤلفة قلوبهم وإيقاف إنفاذ حدّ السرقة من قبل الفروق عمر عام الرمادة، ولو تعلق الأمر بنص قطعي الثبوت و قطعي الدلالة،(5) لانتفاء مظنة الإيقاع، فكيف بغيره؟! والمقصد الأسمى والغاية الأسنى حماية لحمة الأسرة، وحق الله بالتبع.
إن الإبقاء على مفاعيل الطلاق الشفوي ونفاذ آثاره رغم تنصيص المشرع الواضح والصريح على أن الطلاق يقع حصرا بين يدي القضاء في وثيقة مكتوبة، متمثلة في حكم قضائي متى تعلق الأمر بالتطليق، أو إشهاد عدلي حال تعلقه بالطلاق، معناه وجود تعارض بيِّنٍ ما هو شرعي وما هو قانوني، فتغدو الزوجة معلقة، إذ هي مطلقة شرعا بمقتضى كلمة، غير مطلقة قانونا، تألف سماع كلمة ممجوجة في العقل الجمعي، وتأبى تصديقها، في ازدواجية غريبة شاذة تمس بالأمن المجتمعي، فنصبح أمام إشكالية الحلال والحرام، معصية الله أو معصية الزوج، حق الله أو حق العباد.
وهذا مشكل بنيوي في عقل المسلم المعاصر، توهم وجود تضادّ بين ما هو شرعي وقانوني في مواضيع عدة ومواضع شتى، والتوجس من غاية المشرع وإرادة المقنن ورميها بالريبة والتشكك، وتوهم كون التقنين ذا خلفيات غربية مستلبة، كون أغلب القوانين المغربية مقتبسة من القانون الفرنسي، واعتبار غاية المشرع المستترة تقويض عرى الشريعة ونسخ أحكامها، رغم أن الغاية الرئيسة التي يبتغيها كل مقنن ويتغياها كل مشرع هي تفادي التعارض المذكور، بين الشرعي والقانوني، العرفي والقانوني، خاصة مع تعدد الآراء الشرعية بين المذاهب الفقهية، بل وفي المذهب الفقهي الواحد، واختلاف الأعراف المناطقية، بخلاف التقنين والذي يكون واحدا غير متعدد أو محتمل، وهذه الازدواجية المميزة لن تجدها في الدول ذات المرجعية الواحدة، اللاتينية أو الأنجلوسكسونية أو الجرمانية، ومن شأنها لا محالة إن سيء سبكها المساس بالأمن القانوني وتحديدا بالتوقع والاستقرار القانونيين.
فإذا كانت مسائل الفقه سيما فقه الأسرة لا تؤخذ مجملة، بل بتحرير المعنى وتدقيق الفهم، وإبراز المؤيدات، فأهل هذا الوقت لا يفحمون إلا بالدليل ولا يقتنعُون سوى بالحجة، وقد قيل من تجاوزه الدليل فهو ذليل، كان لا بد من سوق الأسانيد المختلفة، الفقهية والقانونية والواقعية التي تعضد رجاحة رأينا، ومنها:
مايو 29, 2023 0
مارس 12, 2022 0
نوفمبر 09, 2021 0
أكتوبر 29, 2021 0