ديسمبر 11, 2018 محمد الامام العزاوي مقالات قانونية 0
لقد كفل الإسلام للإنسان الحق في تملك العقار، وهيأ له أسبابه، وأمر باحترامه وصيانته، ونهى عن الاعتداء عليه وغصبه، قال تعالى: ” ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون“[1]. وقال صلى الله عليه وسلم ” ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، وفي شهركم هذا, ألا هل بلغت”[2]
وقد أولى فقهاء الإسلام عامة والمالكية خاصة هذا الحق عناية بالغة واهتماما كبيرا، فقعَّدوا لحمايته قواعد فقهية ضبطوا من خلالها طرق كسبه وانتقاله، وسبل إثباته والترجيح بين البينات والحجج، لأنهم كانوا يفقهون الواقع ويدركون أنه حق مهدد يحتاج للحماية بسبب كثرة الخصومات والنزاعات المثارة بشأنه، ولظهور علامات الفساد في الدين، ولعل المستقرئ لمختصراتهم، وشروحهم، وحواشيهم، ومنظوماتهم، وطررهم، سيجدها زاخرة بثروة من هذه القواعد التي تشمل كافة كليات وجزئيات الخصومة القضائية المتعلقة به.
ومعلوم أن الاجتهاد القضائي أضحى يضطلع بدور أساسي في تفعيل وتطبيق القانون تطبيقا سليما يتلاءم وغايات المشرع، ويقتضي ذلك دراسة النازلة المعروضة ومحاولة تأصيلها وتأطيرها داخل إطارها التشريعي، لذلك فإن القاضي وهو بصدد البت في النازلة المعروضة عليه يكون ملزما بتعليل حكمه وبيان الإطار القانوني للنزاع، وإلا كان حكمه مشوبا بنقصان التعليل والموازي لانعدامه.
من هذا المنطلق لا يستطيع أحد منا أن ينكر الدور الحاسم الذي تضطلع به المؤسسة القضائية في ضمان الأمن القانوني وإشاعة قيم العدل وإقامة موازين القسط، وكما هو معلوم فإن النصوص القانونية مهما اتسعت لا يمكن أن تلم شتات الوقائع المستجدة تباعا لتطور المجتمع، فكان لزاما على المشرع المغربي إقرار بعض المصادر التكميلية، فجعل من الشريعة الإسلامية عموما والمذهب المالكي خصوصا، مصدرا ثالثا من مصادر القانون المغربي بعد التشريع والعرف، فقد نص الدستور المغربي في التصدير على أن: “المملكة المغربية دولة إسلامية”، وأن: ” الهوية المغربية تتميز بتبوء الدين الإسلامي مكانة الصدارة فيها، وأن الأمة تستند في حياتها العامة على ثوابت جامعة تتمثل في الدين الإسلامي السمح”.
فقد يحدث أن تعرض على القضاء نوازل فريدة لم يكن التشريع الوضعي لينظم أحكامها، فيجد القاضي نفسه ملزما بالرجوع إلى الفقه الإسلامي عموما، قصد تحري الحكم المناسب والمنطقي.
وعليه فإن ما يعنينا أكثر في هذا المقام ما ذهبت إليه مدونة الحقوق العينية في مادتها الأولى بقولها في الفقرة الثانية: ” تطبق مقتضيات الظهير الشريف الصادر في 9 رمضان 1331 ( 12 أغسطس 1913) بمثابة قانون الالتزامات والعقود في ما لم يرد به نص في هذا القانون، فإن لم يوجد نص يرجع إلى الراجح والمشهور وما جرى به العمل”.
بمقتضى هذه المادة أصبح النظام القانوني الخاص بالعقارات محكوم بازدواجية القواعد والأحكام بين مجال فقهي لا ينضب وغني ومتشعب من جهة، وبين مجال قانوني مركب ومتشابك وغير مجد لوحده في هكذا قضايا من جهة أخرى.
فقد كان العمل القضائي يعرف نوعا من الاضطراب وعدم الاستقرار كلما تعلق الأمر بنزاع حول عقار غير محفظ، حيث تثار إشكالية تحديد القانون الواجب التطبيق في هذه القضايا، وذلك بين من يجعل الأسبقية في التطبيق لقانون الالتزامات والعقود وبين من يعقد الاختصاص للفقه الإسلامي وخاصة قواعد الفقه المالكي باعتباره التشريع المطبق على العقار غير المحفظ حتى قبل فرض الحماية على المغرب.
إلا أن صدور مدونة الحقوق العينية بمقتضى الظهير الشريف رقم 1.11.178 الصادر بتاريخ 22/11/2011 بتنفيذ القانون رقم 39.08، فإنه أضحت تنص على المصادر التكميلية التي يتعين على القاضي أن يلتجأ إليها قصد تلمس الحكم الذي يعدمه في التشريع، فبمقتضى المادة الأولى منها أضحى الفقه الإسلامي وبالذات الفقه المالكي مصدرا احتياطيا وثانويا يلجأ إليه قصد تكملة النقص الذي قد يرد على المقتضيات القانونية الواردة فيها، حيث إنه يحق للقاضي تطبيق قواعد الفقه المالكي في ما لم تنص عليه مدونة الحقوق العينية، وذلك بعد تحري الحكم أولا في قانون الالتزامات والعقود باعتباره مصدرا تكميليا أعطته مدونة الحقوق العينية الأولوية على حساب الفقه الإسلامي .
ولما كان القضاء من أخطر المناصب، وهو وظيفة الأنبياء وأساس خطورته هو الغاية التي شرع من أجلها، وتكمن في الفصل بين الخصوم وإعادة ما أصابه الخلل من الأوضاع والعلاقات بين الأشخاص إلى نصابه، ومهما كان فإن أي وظيفة لا يمكن أن تثمر ثمارها وتحقق غاياتها المنشودة ما لم يكن لها من الدعم والتأييد ما يضع منجزاتها موضع الاحترام والتنفيذ في الواقع، والقضاء من أهم الوظائف التي ينبغي لها أن تؤيد بذلك، لأنه يؤدي إلى قطع المنازعات وفصل الخصومات ووضع حد للمشاحنات التي قد تنشأ عن احتكاك الناس ببعضهم البعض.[3]
إن النظام القضائي الفاعل هو النظام الذي يتماشى مع مجريات العصر من تطور وتفاعل، فهو النظام الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم، فلا تهاون ولا مغالاة، وهو النظام الذي تجري به الفعاليات القضائية بالسرعة المطلوبة، فلا تباطؤ ولا تمادي، فهو لا يترك مجالا من الزمن غير اللازم فيأتي على حقوق الناس ويهلك الحرث والنسل، ولا يكون في عجلة مفرطة من الأمر على حساب وضع الحقوق في نصابها، فهو ذلك النظام المتوازن الذي يقف على مسافة متساوية بين من له الحق ومن عليه، فهو بذلك يكون مؤسسا على تحقيق مصلحة الدولة ومنفعة الناس، وهو النظام الذي يحدث نفسه بنفسه إنطلاقا من تفاعلات القضاة وتطبيقهم السليم والأنجع للقانون، فلا تترك الثغرات عما هي عليه، ولا يفسح المجال لتطاول الأغيار على القانون واستغلال ثغراته.
إن تداعي أي نظام قانوني واختلاله من مسببات تهاوي الدول واختلال التوازن وإضاعة الحقوق وتراكم الضغائن والأحقاد وخلق الفتن ما ظهر منها وما بطن، ويكفي الاستشهاد هنا بالقولة الشهيرة لرئيس الوزراء البريطاني لما سئل عن أحوال بريطانيا فقال: ” ما دام القضاء بخير فإن بريطانيا بخير”.
فكما لا يخفى ما للمعاملات، خصوصا بشأن العقار، من أهمية في الحياة العملية، كما لا يخفى أن نسبة من المنازعات التي تدور في المحاكم تتعلق بنزاعات عقارية، كما لا يخفى أن النزاعات المذكورة يفصل في بعض منها وفق قواعد الفقه المالكي الذي ما يزال يطبق ولو في صور محدودة ودعاوى معدودة.
غير أن صدور هذه المدونة لا يمكن أن نقول أنه عالج جميع الإشكالات والقضايا التي يمكن أن تعرض أمام القضاء، ذلك أن القاضي يجد نفسه أحيانا أمام فراغ تشريعي في قضية ما، ويحتم عليه التوسل بأحكام الفقه المالكي ليجد مخرجا لها إعمالا للمادة الأولى من مدونة الحقوق العينية السالفة الذكر.
بعد هذا التقديم الموجز، ستكون دراستنا لهذا الموضوع وفق مبحثين نخصص الأول للحديث عن تطبيق محاكم الموضوع لقاعدة الإحالة على الفقه المالكي، بينما نخصص المبحث الثاني لنعالج طبيعة رقابة محكمة النقض على محاكم الموضوع بخصوص تطبيق قاعدة الإحالة.
[1]– سورة البقرة ، الآية 187
[2]– لمحمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري الجعفي، صحيح البخاري ، كتاب المغازي، باب حجة الوداع، رقم الحديث: 4403، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة الأولى: 1422هــ.
[3]– محمود محمد ناصر بركات ” السلطة التقديرية للقاضي في الفقه الإسلامي، دار النفائس للتوزيع والنشر، الأردن، 2007، ص 224.
ديسمبر 24, 2019 0
أبريل 16, 2018 0
أبريل 16, 2018 0
أبريل 16, 2018 0
مايو 29, 2023 0
مارس 12, 2022 0
نوفمبر 09, 2021 0
أكتوبر 29, 2021 0