مارس 13, 2017 محمد أبودار بحوث قانونية 0
مقدمة:
التعريف بالموضوع وأهميته
إن ظاهرة العقوبة كرد فعل اجتماعي ضد الجريمة ليست حديثة النشأة، بل قديمة قدم الإنسانية، حيث عرفتها سائر المجتمعات وصاحبتها في تطورها ورقيها.
ويكشف لنا التاريخ الإنساني أن العقوبات البدنية هي النوع الأكثر شيوعا في النظم العقابية القديمة([1])، وهي عقوبات اتسم تنفيذها بالقسوة وعدم العدالة لأن الهدف من إيقاعها لم يكن يتعدى الإنتقام من الجاني والتنكيل به وجعله عبرة لغيره([2])، فكانت هذه القسوة مدعاة لقيام المرحلة الفلسفية لتصحيح أوضاع القسوة والوحشية التي عاشتها الأنظمة العقابية([3])، وتميزت هذه المرحلة بثورتها ضد هذه العقوبات والمناداة بإقرار اتجاهات جديدة تقيم العقوبة على أساس مبدأ الشرعية الجنائية كخير ضمان لمرتكبي الجريمة من أن تصيبه عقوبة غير منصوص عليها في القانون، وانسجاما مع هذه الأفكار الحديثة ظهر ما يسمى بتفريد العقوبة كمؤسسة قانونية تغيرت معها النظرة إلى وظيفة العقوبة، لتنتقل من الانتقام والتنكيل إلى الإصلاح والتأهيل.
وفي ظل هذا التطور اهتدى الفكر الجنائي إلى العقوبات السالبة للحرية كأنسب عقاب يمكن إحلاله محل العقوبات البدنية التي دعا إلى إلغائها، ومنذ ذلك الوقت انشغل بضرورة إعادة النظر في المعاملة العقابية للمحكوم عليه ومراعاة قواعد الإنسانية في التنفيذ العقابي حتى يحقق العقاب الفائدة المرجوة منه بإعادة تأهيل المحكوم عليه للعودة إلى الحياة الاجتماعية عضوا صالحا في الجماعة([4]).
وهدف التأهيل يجب أن يبنى على أسس علمية دقيقة ومحكمة في إطار برنامج تهذيبي كامل يزود المحكوم عليه بما يحتاج إليه من تربية مدنية وأخلاقية ومهنية وصحية تساعد على إعادة التوازن الذي أخلت به الجريمة المرتكبة وتساعد المحكوم عليه على تقويم اعوجاجه وتنشئة شخصيته على أسس علمية.
ومن العروف أن نجاح هذا البرنامج يقتضي وقتا كافيا لتطبيقه وتنفيذه داخل السجن وتجنيبه أي ظرف يمكن أن يفسد الغرض منه وهو الإصلاح والتأهيل كشعار للسياسة العقابية الحديثة التي أصبحت ترى في السجن مؤسسة اجتماعية([5]) تربوية لا مؤسسة للتحفظ على الجاني و إهماله.
لكن سرعان ما أثبتت التجربة للعيان أن تحقيق هدف الإصلاح والتأهيل من خلال العقوبات السالبة للحرية ليست بالسهولة التي كان يعتقدها دعاة الإصلاح، فقد كشفت العقوبات الحبسية وخاصة القصيرة منها عن مساوئها التي تبين أنها تتعارض مع الهدف المذكور، وأنها تفسد المحكوم عليه بدلا من إصلاحه، فهي بالنظر إلى قصرها غير كافية لتطبيق برنامج إصلاحي يستفيد منه المحكوم عليه الذي يكون عادة من المجرمين قليلي الخطورة الإجرامية، فيكون لدخوله السجن آثار سيئة تمس مختلف نواحي حياته الاجتماعية والنفسية والاقتصادية، وتمتد هذه الآثار لتطول أفراد أسرته وعائلته بل والمجتمع ككل الذي يتحمل تبعة فشل العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، التي تعد سببا للعود الجنائي([6]) مع ما يترتب عليه من ارتفاع عدد الوافدين مرة ثانية على المؤسسات السجنية التي يطبعها الاكتظاظ كمعرقل أساسي لنجاح المعاملة العقابية. فضلا عن ارتفاع النفقات المخصصة لتنفيذها والتي تثقل كاهل الدولة من جهة، وأسرة المحكوم عليهم من جهة ثانية، ناهيك عن بعض المشكلات الهامة التي تثار دائما بالنسبة لهذه العقوبات، ومن ذلك مثلا غياب الموارد البشرية المؤهلة للتعامل مع نوعية المحكوم عليهم بالعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.
ومن هذا المنطلق بدأ التفكير في استخدام وسائل جديدة للحد من الحالات التي يسمح فيها للمشرع توقيع العقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة، فاتجه البحث نحو اقتراح ودراسة بدائل لهذه العقوبات كاستراتيجية جديدة لمواجهة الظاهرة الإجرامية بأقل خسارة ممكنة، ذلك أن هذه البدائل توفر للمحكوم عليه معاملة عقابية خارج أسوار السجن من شأنها تسهيل عملية إدماجه داخل النسيج الاجتماعي مع توفير مقومات هذا الإدماج ليحتفظ المحكوم عليه بكل أوضاعه الإجتماعية والإقتصادية ومكتسباته وروابطه الأسرية والإجتماعية.
وتتضمن السياسة الجنائية الحديثة جملة من هذه البدائل : فمنها ما هو مقيد للحرية كالإختبار القضائي والشغل من أجل المنفعة العامة والمراقبة الإلكترونية، ومنها ما هو ذو طبيعة مالية كالغرامة والغرامة اليومية والمصادرة، ومنها أيضا ما هو مقيد للحقوق والمزايا، أكثر من ذلك يمكن البحث عن بدئل أخرى تستمد من قوانين غير جنائية كالقانون الجنائي الإداري والقانون المدني، بل ويمكن أيضا الإستعانة بما يعرف بالبدائل المجتمعية كالصلح والوساطة.
وتعدد هذه البدائل تساعد القاضي الجنائي المتخصص على اختيار البديل الملائم لمصلحة المحكوم عليه ولمصلحة الضحية أيضا بما يحقق التوازن المطلوب بين طرفي الجريمة عوض الإخلال به عند الحكم بالعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة.
ومما لاشك فيه أن دراسة إشكالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والبدائل المقترحة تمثل واحدة من أهم الإشكاليات الحيوية والهامة التي ما زالت تثير الكثير من المناقشات والجدل على مستويات كافة. لذلك فإن اختيار هذا الموضوع ودراسته في ضوء الهدف الأساسي للسياسة العقابية الحديثة المتمثل في إصلاح الجاني وإعادة إدماجه في النسيج الاجتماعي له أهمية كبرى باعتباره من أدق مواضيع علم العقاب الحديث الذي يشهد ثورة في مضمونه تتماشى والتيارات الحديثة للسياسة الجنائية المعاصرة والتي يأتي في طليعتها تيار الحد من العقاب. كما أن الوقوف على العديد من المشكلات التي يمكن أن يثيرها هذا البحث على المستوى العملي له أيضا أهمية خاصة تميزه للوصول إلى تقييم علمي موضوعي لإشكالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والبدائل المقترحة، والتي تعد من الدراسات القليلة التي اهتمت بموضوع البدائل وخاصة في الدراسات القانونية المغربية التي تعاني أصلا من نقص كبير في الموضوعات التي تشكل صلب علم العقاب الحديث.
إشـكالية البحــث
أثار موضوع العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة والبدائل المقترحة عددا من التساؤلات التي تطلبت الإجابة عليها دراسة وبحث متعمقين لإيضاح أبعادها والوصول إلى أغوارها، وتصب هذه التساؤلات أساسا في إشكالية هامة وهي مدى جدوى وفعالية العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة في تحقيق أهداف الإصلاح والتأهيل؟ وهل من الممكن الاستغناء عنها وإبدالها بعقوبات أخرى؟ وإلى أي حد يمكن لهذه العقوبات الأخرى أن تحل مشكلة العقوبات القصيرة المدة؟ وهل مناخ السياسة الجنائية المغربية كفيل باحتضان هذه البدائل؟
مـنهــج البــحـث
هذه الأسئلة هي التي حاولنا الإجابة عنها في هذه الدراسة معتمدين في ذلك على منهج وصفي وتحليلي مقارن بغية التوصل إلى تصور واضح عن موضوع الدراسة وأهدافه واستخلاص نتائجه: ذلك أن منهج الوصف والتحليل يساعد في الوقوف على الآراء المختلفة في الموضوع ومناقشتها، كما أن المنهج المقارن يفيد في معرفة التوجهات الحديثة والمعاصرة للسياسة الجنائية المقارنة ومدى تطور سبلها في مواجهة الظاهرة الإجرامية لنكون على ضوئها تصورا عاما يمكن من خلاله بناء معالم جديدة لنظرية العقوبات البديلة.
خطــة البـحـث:
لقد اقتضت طبيعة هذا البحث تقسيمه إلى بابين رئيسيين:
الباب الأول: خصص للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة بين متطلبات الردع والتأهيل ارتأينا في فصله الأول ضرورة الوقوف على ماهية هذه العقوبة من خلال التطرق إلى معايير تحديدها وخصائصها، وفي الفصل الثاني تناولنا موقع العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة مبرزا هيمنتها على الجزاء الجنائي وأسباب هذه الهيمنة ثم الآثار السلبية المترتبة عليها متسائلين عن ضرورة إيجاد بدائل لهذه العقوبات تضفي على العقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة وجها جديدا .
الباب الثاني: الوجه الجديد للعقوبة السالبة للحرية قصيرة المدة، قسم بدوره إلى فصلين: خصص الفصل الأول للحديث عن البدائل في نطاق النظام الجنائي والتي تم تقسيمها إلى بدائل مقيدة للحرية وبدائل مالية وبدائل سالبة أو مقيدة للحقوق أو المزايا، بينما تناولنا في الفصل الثاني البدائل المستمدة من خارج النظام الجنائي وقفنا من خلاله على البدائل القانونية غير الجنائية وكذا البدائل المجتمعية.
وأخيرا الانتهاء من البحث بخاتمة كانت عبارة عن استخلاص نتائج هذه الدراسة وبعض الاقتراحات بخصوص مستقبل العقوبات البديلة في سياستنا الجنائية.
————————————————-
[1] فرج صالح الهريش: النظم العقابية، دراسة تحليلية في النشأة والتطور، دار الجماهيرية، الطبعة الأولى، 1992 ، ص 104.
[2] Merle (R) – Vitue (A) : Traite de droit criminel, droit pénal général, édition C.U.J.A.S 2e édition 1973, p 818.
[3] فرج صالح الهريش: مرجع سابق، ص 108.
[4] أحمد عوض بلال: النظرية العامة للجزاء الجنائي، دار النهضة العربية، القاهرة، 1995، ص 304.
[5] مصطفى عبد المجيد كاره: السجن كمؤسسة اجتماعية، دراسة عن ظاهرة العود، المركز العربي للدراسات الأمنية والتدريب بالرياض، دون طبعة، ص 29.
[6] مصطفى عبد المجيد كاره: مرجع سابق، ص 89.
مايو 29, 2023 0
يونيو 01, 2022 0
مارس 12, 2022 0
نوفمبر 09, 2021 0
أبريل 11, 2017 0
أبريل 11, 2017 0
مارس 30, 2017 0
مارس 30, 2017 0